باغتنا أمس وزير المال يوسف الخليل، بتصريح عن تعديل لما يسمّى «السعر الرسمي» لليرة اللبنانية من 1507 ليرات إلى 15 ألف ليرة. ثم بعد ساعتين، صدر بيان عن وزارة المال يشير فيه إلى أن اعتماد السعر الجديد أتى بعد إقرار موازنة 2022 في مجلس النواب التي تتضمن سعر صرف 15 ألف ليرة مقابل كل دولار أميركي، وأن السير في خطة التعافي يتطلب توحيد سعر الصرف «لذا أصبح وقف العمل بسعر صرف الدولار الأميركي على أساس 1507 ليرات إجراءً تصحيحياً لا بدّ منه. وكخطوة أولى في اتجاه توحيد سعر الصرف، تم الاتفاق بين وزارة المال والمصرف المركزي على اعتماد سعر 15000 ليرة مقابل كل دولار عملاً بأحكام المادتين 75 و83 من قانون النقد والتسليف...».
إذاً، لماذا جرى الاستناد إلى هاتين المادتين في قانون النقد والتسليف تحديداً، ووضعهما في سياق إقرار الموازنة التي أقرّت بسعر صرف جديد؟
شكلاً، للمرة الأولى يظهر بيان بلهجة لا تشبه يوسف الخليل المرتبك في جلسات مناقشة الموازنة العامة، بل تشبه يوسف الخليل الموظف في مديرية العمليات المالية في مصرف لبنان. والشكل فيه الكثير من التوافق مع المضمون، إذ إن الاستناد إلى سعر صرف موحّد في الموازنة هو أمر «كاذب» بالمطلق ويشبه تلك «الهندسات» التي نفّذها الخليل بأوامر حاكمه رياض سلامة. فعلى سبيل المثال، لم يجر تحويل الأجور والرواتب في الموازنة على سعر صرف 15 ألف ليرة، بينما سعر الصرف الذي يُحتسب لغايات الضريبة، أو ما يمكن تسميته «الدولار الضريبي»، هو الذي جرى تثبيت قيمته بـ15 ألف ليرة مقابل كل دولار. ولهذا السبب تحديداً، كان الدولار الجمركي هو واجهة الحديث لأنه يتضمن تصحيحاً لاستيفاء الرسوم الجمركية على السلع المستوردة، أي على السلع التي يتم تسعيرها بالعملة الأجنبية. ولهذا السبب أيضاً، يمكن إطلاق تحدٍّ بأن توافق وزارة الاتصالات على جباية الضرائب بسعر 15 ألف ليرة لا بسعر منصّة صيرفة كما أقرّ في آخر جلسة للحكومة.
الكذبة أكبر بكثير. ففي بيان الخليل، يجري الاستناد إلى المادتين 75 و83 من قانون النقد والتسليف لتبرير «الإجراء التصحيحي» الرامي إلى إلغاء سعر صرف الـ1507 ليرات واستبداله بسعر صرف يبلغ 15 ألف ليرة. فهاتان المادتان لا علاقة لهما بمسألة تحديد سعر الصرف، إنما هما تشيران إلى آلية تمويل الخسائر التي تصيب مصرف لبنان بسبب فروقات سعر الصرف من جراء تدخلاته في السوق بشكل استثنائي. هنا لبّ المسألة كلّها. بحسب الخبيرة في الشؤون القانونية المصرفية التي أنجزت شهادة الدكتوراه بدراسة قانون النقد والتسليف اللبناني، سابين الكيك، تقول إن «ربط المادة 75 بالمادة 83 من قانون النقد والتسليف، هي محاولة تغطية قانونية للمرحلة الماضية، وإغلاق قيمة الخسائر للمرحلة اللاحقة لدى مصرف لبنان». بعبارات أوضح، ما تقوله الكيك هو أن المادة 75 تشير إلى أن مصرف لبنان ليست لديه القدرة على التدخّل في السوق بائعاً أو شارياً لعملات أجنبية مباشرة مع الجمهور، بهدف ثبات القطع، إلا بحدود استثنائية ومحدودة بالتشاور مع وزير المال، وأن العمليات يتم تقييدها في «صندوق تثبيت القطع».
هنا يصبح السؤال ضرورياً عن مصير الخسائر والأرباح التي قد تنتج من هذه العمليات والملحوظة في المادة 116 بشكل واضح، إذ تشير إلى أن الخسائر التي تتجاوز 25% من موجودات مصرف لبنان، والناتجة من فروقات «السعر القانوني والسعر الفعلي لشراء أو بيع موجودات مصرف لبنان»، أو الناتجة من «تعديل سعر الليرة اللبناني القانوني، أو سعر إحدى العملات الأجنبية» (...) «تغطّيها الدولة إما نقداً أو ضمن شروط تُحدّد بالاتفاق مع المصرف بسندات خزينة تنتج فوائد».
عملياً، ما تشير إليه الكيك، هو أن المصرف المركزي لديه ما يكفي من الخسائر الناجمة عن تدخله في السوق بائعاً وشارياً للعملات الأجنبية، وأنه في سياق هذا الأمر استعمل قسماً من الاحتياطات، بالتالي بات يحتاج إلى تغطية قانونية لهذه «العَمْلة» لنقل الخسائر من ميزانيته إلى حساب الدولة اللبنانية.
لذا، المطلوب اليوم أن يكشف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وأعضاء المجلس المركزي، عن ميزانية حقيقية لمصرف لبنان تتضمن تفاصيل السيولة بالعملات الأجنبية القابلة للاستعمال ونسبتها من السيولة المعلنة. فالتدقيق بميزانية مصرف لبنان، بات أمراً مطلوباً بشدّة نظراً للقلق الذي ينتج من خطوات كهذه والحصيلة التي يمكن استنتاجها من تعديل فجائي لسعر الصرف بالاستناد إلى مواد قانونية تتحدث عن «ثبات القطع» وعن الصندوق الذي تقيد فيه الخسائر والأرباح الناتجة من العمليات التي استخدمت في سبيل هذا الثبات. «لذا أيضاً، بات على مصرف لبنان وعلى وزارة المال أن يُفصحا، بمعزل عن مستوى السعر الذي يتم تحديده اليوم، عن السياسة النقدية المتبعة. فالسعر ليس مهماً بمقدار المسار الذي تحدّده هذه السياسة وقدرتها على الاستمرار. فهل هي سياسة انتقالية لسعر الصرف مثلاً؟ أم أنها سياسة تثبيت جديد لسعر الصرف؟ يمكن إثارة الكثير من الأسئلة، إنما من الضروري السؤال عن الآلية العملية لاحتساب هذا السعر بقيمة 15 ألف ليرة فيما هناك منصّة صيرفة التي تعمل الآن. وزير المال، وفي نفس التصريح الذي يتحدث فيه عن سعر الصرف الجديد، يشير إلى أنه يفضل 20 ألف ليرة!».
يمكن استنتاج الكثير من تصريح الخليل، ومن البيان الصادر عن وزارة المال، إلا أنه من المثير جداً أن يصدر قراراً كهذا، تقول المعلومات إنه حصيلة اتفاق بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عشية الجلسة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية. ففي النتيجة، إن قراراً كهذا يصبّ في مسار يسير فيه لبنان منذ ثلاث سنوات تختصره الكيك بالآتي: «هم لا يسمحوا للشعب بأن يعيد ترتيب أوضاعه الاجتماعية. نحن اليوم في أزمة لا استقرار، وهي أصعب من كل ما خسرناه على مستوى الأجور والمدخرات». لكن ما بات واضحاً، هو أن مصرف لبنان راكم، وسيراكم الكثير من الخسائر في ميزانياته مما يستدعي تغطية قانونية تحميه من أي ادعاءات لاحقة. هنا بالتحديد رهان الكيك على جهتين: رهان على رئيس الجمهورية بأن يردّ مشروع الموازنة لنسف كل هذه العملية من أساسها وهو لا يريد في آخر أيام عهده أن يشارك في جريمة كهذه، ورهان على أن الكتل النيابية التي عارضت أو رفضت مشروع موازنة 2022، أن تسارع إلى تقديم طعن دستوري فيها.
سعر صرف الليرة 10 أضعاف للمرة الأولى منذ 25 عاماً خطوة للخروج من سياسة إنكار الأزمة
رفعت الحكومة اللبنانية السعر الرسمي لصرف الدولار 10 أضعاف، للمرة الأولى منذ 25 عاماً، بعد ثلاث سنوات من أزمة مالية ومعيشية واقتصادية أدت إلى تدهور قيمة العملة 25 ضعفاً، وذلك في أول قرار رسمي باتجاه توحيد سعر الصرف المطلوب من «صندوق النقد الدولي» واعتراف مالي بالأزمة، على قاعدة أن السعر الرسمي المعمول به منذ ثلاث سنوات (1500 ليرة للدولار)، هو أشبه بسعر وهمي.
وقالت مصادر مالية إن هذا القرار «يخاطب المؤسسات الدولية، وفي مقدمها (صندوق النقد الدولي) الذي يصر على توحيد الصرف الرسمي»، مشيرة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى أن القرار «هو تمهيد لتوحيد سعر الصرف»، الذي يتم تداوله الآن بستة أسعار، هي السعر الرسمي المثبت منذ 1997، البالغ 1507 ليرات للدولار الواحد، و8000 ليرة، وهو الدولار المصرفي الذي يتم على أساسه سحب الودائع المصرفية بالدولار الأميركي، و12 ألف ليرة، وهو سعر الدولار في الحصة المالية المسحوبة بالليرة المحلية من ودائع الدولار، بموجب التعميم «161» الصادر عن «مصرف لبنان»، و15 ألف ليرة، وهو سعر الدولار الجمركي الذي أقره مجلس النواب يوم الاثنين الماضي، و30 ألف ليرة وهو سعر منصة «صيرفة» العائدة لـ«مصرف لبنان المركزي»، وسعر صرف السوق الموازية الذي يناهز الـ38 ألف ليرة.
ووصفت مصادر مصرفية هذا القرار بأنه «خطوة متقدمة للخروج من سياسة إنكار الأزمة»، منذ ثلاث سنوات، ويمثل «اعترافاً رسمياً بأن السعر السابق لم يكن سعراً واقعياً، بعد ثلاث سنوات من الأزمة»، حسبما قالت لـ«الشرق الأوسط»، معتبرة أن القرار «إيجابي لناحية توحيد سعر الصرف»، وهو أحد الشروط التي وضعها «صندوق النقد الدولي» للبنان، لتأمين حزمة المساعدات التي تشتد الحاجة إليها. وقال «صندوق النقد»، الأسبوع الماضي، إن تقدم لبنان في تنفيذ الإصلاحات ما زال بطيئاً للغاية.